التفاخر والمغالاة والتغنّي بالأمجاد هو كل ما نبرع به هذه الأيام. نحملها شعارات ربما تُقنع الآخر: الخير، الإيمان والتقوى الموسومة ببقعة سوداء على الجبين، المسلم المُتدين ومسبحته التي لا تفارق أصابعه، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الذي يكتفي بالذمّ والنهي وانتقاد الآخرين دون أن يكلّف نفسه حتى رمي النفايات بحاوياتها المخصصة !!
لكن هل تفّكر احدنا ما هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ ما هو الخير؟
استوقفتني (أم شهد) أرملة عراقية فقدت زوجها أبان دخول القوات الأمريكية العراق، لها خمسة يتامى بنات أكبرهم سناً بنت الثالثة عشر من العمر، فوجعت بوفاة أخيها الذي ترك لها ثلاث أيتام ووفاة أختها تاركة يتيمين أثقلوا كاهلها وانضموا لقائمة الأطفال اليتامى التي تعيلهم إضافة لإعالتها والدتها العجوز وعنايتها بها. تخبز الخبز للناس وتمتهن الخياطة، تقضي يومها بين الكدح والاعتناء باليتامى ووالدتها ناهيك عن واجباتها والتزاماتها المنزلية.. أين كافل اليتيم اليوم؟ قال رسولنا الكريم: (أنا وكافل اليتيم في الجنّة هكذا وأشار لإصبعيه السبابة والوسطىٍ).
الإيمان والخير لا يتمثل بالقول فقط بل بالفعل، وما أكثر اليتامى والمحتاجين والفقراء والعجزة في بلد النفط، بلد النهرين والخيرات، العراق الديمقراطي الجديد. ماذا سيحصل لو يلتفت قليلاً هذا أو ذاك عن مطاردته النساء لإجبارهن ارتداء الحجاب كأن شعرهن سيهدد الأمن القومي للبلاد ويؤثر سلباً على الوضع الاقتصادي ويشغل الناس عن فعل الخير، ماذا سيحصل لو ترك قليلاً مما يحشر في كرشه يوما ليطعم به جائعاً، ماذا سيحصل لو لم يقتني احدث سيارة أو يبني قصراً جديدا ليتصدق بماله على بناء دار للعجزة أو تأهيل مركز صحيّ؟ لن اطلب أن يتبرع به لدوائر الرعاية الاجتماعية أو دور الزكاة فهم ليسوا أكثر خيرا من غيرهم فقد ثبت اختلاسهم 18 مليار و20 مليون دينار عراقي فقط بمحافظة نينوى !! آه حتى الفقير لم يسلم من سرقاتهم؟
أم أن الدين والانضباط والعمل بالمعروف والنهي عن المنكر لا يشمل سوى غلق النوادي الاجتماعية والثقافية ومحاربة الفنان والأديب الذي يسعى للارتقاء بقيمة الجمال ويبني مجتمعه ويسهم في تثقيف وزيادة وعي الناس؟ ومطاردة بائعي الخمر وابتزازهم لدفع رشاوى مقابل بيعه خلسة تحت طاولة الممنوع !
سواء كان مقصوداً بـ (خير امة) العرب أم الإسلام، فالخير سواء وهو من سمات الإنسانية، و الأخلاق الفاضلة هي من سماتنا كعرب وكإسلام. إن المُرعب في الأمر والأكثر بلاءاً تفرج الناس على الشر والرذيلة والفساد دون تحريك ساكن، فقد سلمّوا أمرهم للمرتزقة ومافيا الدين وآمنوا بهم إيمانا مطلقاً، وأيدوهم حتى على الباطل. هم ليسوا سوى دكتاتورية فاشيّة لأنه ومن المعروف لا يمكن أن يعّمر ويهيمن أي نظام ديني في مجتمع متغير إلا إذا وجدت طريقة لتغيير قاعدة تأييده "مثال على ذلك: الكنيسة الكاثوليكية الرومانية التي عاشت الف عام من خلال التأقلم مع المجتمع الاقطاعي بداية ومن ثم مع المجتمع الرأسمالي الذي حل محل الاقطاعية مغيرة الكثير من جوهر تعاليمها في العملية" (1) . فالناس دوما يتفاعلون مع الشرائع والمعتقدات الدينية واتخاذها نموذجاً للحياة بل وأيدلوجية رسمية تقوم على أساسها الدولة، بينما يتسبب ذلك إلى نتيجة عكسية حيث يدخل المجتمع في صراع وتمزق كبيرين يجرفهم نحو الاقتتال وسحق بعضهم الآخر دو التوحد والبت بعمل وتقديم الخير.
أسنكتفي بالترحم على أجدادنا؟ والتهلل بأمجادهم؟
"كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ.. "سورة آل عمران آية 110.
سبحانك جلّ جلالك فعلا ٍ.. كنـــا !!
المقال المنشور بجريدة المنارة ضمن باب (بصوت هاديء) .. للقراءة بصيغة pdf
1 comment:
والله ايفان انتي اروع ما شفت من افكار راقيه
Post a Comment