- قصة واقعية -
وقفت أحدق فيه كآله قديم أسطوري, تصرخ تقاسيم جسده بالعنفوان والكبرياء....مثيرا الرعشة والخوف فٌي.. تمنيت لحظتها لو أن بيدي سكينا, لجلست على صدره وطعنته, طعنته, طعنته.. حتى يخرج قلبه بين يدي, وبلحظة احتفالي بانتصاري الخيالي تنهدت , فتح عيناه مبتسما, جرني من يدي ورمى بي على السرير وأخذ كالثور يحرث كل شبر من جسدي, لاهثا بأنفاسه التي تحرق شعري ووجهي بنهم وشهوة, غير مكترث بالأنثى التي تصرخ بصمت كل جوارحها : أكرهك, أكرهك, وذلك الصوت, الصوت الذي برأسي, يشبه وقع خطوات جيش جرار بعدته..لا, إنه صوت دود يأكل بجمجمتي..
الحرث, الدود, النهم.. الحرث والدود وذلك الصوت, رأسي..آه جسدي, كلها دقائق حتى أنهى الثور ركضه ولهاثه و.. وجلس يبكي, يجهش بالبكاء كطفل خائف خنقته العبرات..
والآن.. حانت لحظة انتشائي , الآن.. أشعر برايات النصر تخرج من جسدي مهلهلة, وكل ما في الغرفة يحيي ذلك النصر, السرير والوسائد والشراشف ترقص معلنة بدء دوري بالاستمتاع بهزيمة الثور.
قبل ذلك, كنت أبكي أنا الأخرى خائفة, مشككة بنفسي, ربما كنت السبب؟ ربما فعلت له شيئا دفعه للبكاء هكذا؟ لكن الآن, وبعدما تعلمت اللعبة وأخذت أتقنها مع الأيام, صرت أنتظر اللحظة بفارغ الصبر, اللحظة الزمنية القصيرة التي تعلن فيها الأنثى بداخلي انتصارها وعنفوانها.
* * *
) - تزوجيني.. لآخذك لأبعد مكان في العالم, تزوجيني وأعد بأن أجعلك سعيدة, أميرة في قصر ذهبي..
كان رجلا جذابا, ينضح عنفوانا وقوة, لم أستطع مقاومته, رغم خوفي تجاهه, رغم قرع طبول التحذير بداخلي منه, ولم أعرف سبب هذا.. فسرته حينها على إنه خجل, كونه أول رجل التقي به في حياتي.
تزوجنا, وسافرنا كما وعدني, ما زلت أذكر ليلة زفافنا, ليلة زفاف كل بنت; بيضاء مشرقة مليئة بالحب, ليلة تحول البنت لامرأة.. ليلة تتويج الحب والأنوثة على عرش القداسة و الأبدية..
لكن ليلتي لم تكن كما تخيلتها وحلمت بها, لم تكن رومانسية ساحرة, لم تكن بيضاء.
كانت أشبه بليلة عيد الأضحى, حيث تساق الذبائح للقصاب والناس حولها مهلهلين فرحين يذبحون القرابين ويقدمونها لله. ساقني للمذبح, سريري الأبيض, لكنه بعد دقائق لم يعد أبيض, حتى فستان الزفاف, لم يعد أبيض, قدمت الذبيحة بكل وحشية وقسوة للإله القديم الذي باركته كل مظاهر الفرح بالغرفة, كل ما فيها من أثاث وجدران وأبواب وشبابيك, قام بالطقوس فرحا بذلك الإله وبعد انتهاء المراسيم, جلس الإله عند قدمي الذبيحة.. ليبكي! وكأن منظر الأبيض الدامي قد ذكره بإنسانيته.. ارتعبت, خفت, وما بين الألم والخوف, ما بين الرهبة والارتعاش, لم أكن أفكر سوى بكوني مذنبة.. خاطئة. (
* * *
- من كان على الهاتف؟
- سأل بوجه متجهم تكاد عيناه تنزفان نارا وغضبا.
تأتأت ..
- لم يرن الهاتف!
- لا تكذبي . )ورمى بي على الأرض(
- سمعتك تحدثينه, سمعتك.. إتصل بي فيما بعد.
أخذت أهز رأسي رفضا وأنا أبكي, إن النوبة بدأت مرة أخرى وهذه المرة.. الهاتف.
أخذ الهاتف كالمجنون وحطمه على الأرض وسحب أسلاكه وجرني نحو الغرفة ورمى بي على السرير وأخذ يربط الأسلاك برقبتي ويداي ورجلاي, وهو يشتمني ويرفسني, حتى خدر جسمي ولم أعد أشعر بالألم, بل أحسست برغبة في النوم, غلبني النعاس وأنا أسمع صراخه وهو يضربني, صوته وصوت الدود يأكل جمجمتي من جديد, ذلك الصوت, وغفوت مستسلمة لما يحدث .
وعيت, كان الألم بكل مكان في جسمي, الفوضى, الأثاث المكسور. لم يكن موجودا, نظرت للساعة وكان قد مر تسع ساعات على حالي هذه. ظللت بلا حراك رغم كوني أستطيع فك وثاقي, لكني أخذت أراقب بعينين محروقتين الباب منتظرة الهي ليحررني من سجني وينهي عقوبتي بلا ذنب يرتكب.
سمعت صوت خطواته, أخذ قلبي يتخبط خوفا في صدري كعصفور يتخبط بقفصه, دخل وجلس على الأرض عند قدمي.. وأخذ يمسح وجهي بكل حنان وعطف وهو يبكي, كنت على استعداد أن أضرب كل يوم بهذا القدر من الوحشية حتى أراه بهذه الحالة, هذه اللحظة التي يعلن بها هذا الإله انهزامه وذله.
* * *
) كنت واقفة على باب الشرفة أراقب الناس والشارع, كان قد مضى شهر على زواجنا لم أطأ فيه حتى عتبة الباب, كنت فعلا كالأميرة في قصر ذهبي, لكن الأميرة مسجونة بقبضة سجانها العتيد.
تقدم نحوي بسرعة مجنونة وأغلق الستار صارخا بوجهي وهو يسحبني للداخل :
- من هذا الذي كنت تشيرين له ضاحكة؟
لم يكن هناك من أحد, ذهلت و استغربت.. حاولت إيضاح الأمر وأن أفهمه بأنه مخطئ, ربما توهم الأمر. مما زاده غضبا صراخا وجنونا, أخذ يحقق معي ويسألني, حتى إني كذبت نفسي وتوهمت بأني فعلا ربما قد أكون فعلت هذا.
رماني على الأرض واخذ يرمي الأثاث علي مجنونا ثائرا, وقام بضرب الباب الزجاجي للشرفة بقبضته فأدميت وصارت قطع الزجاج المتناثر تملأ المكان, وإنغرزت بعضها بيديه, جلس على الأرض منهارا تنزف يداه وأخذ يبكي ويضرب على رأسه. خفت, خفت كثيرا, تقدمت نحوه محاولة منعه, أمسكت بيديه وضممته لصدري ودموعي تغسل رأسه ودموعه الحارة تغسل صدري. أخرجت الزجاج من يديه وضمدت جراحه, كان ينظر الي بندم وحنين كأنه يقول لي: " أنا ألف آسف". ضممته بقوة لحضني وهمست بأذنه بأنه الوحيد في حياتي ولم ولن يكون فيها أحدا غيره أبدا. (
* * *
الشك.. نعم الشك, كان يصل به لدرجة الهذيان السمعي والبصري, جنون الارتياب, ليس هناك إنسان طبيعي ينهض من فراشه منتصف الليل ليتأكد من إغلاق الأبواب والشبابيك والصمامات و الحنفيات أكثر من مرة, ليس هناك إنسان طبيعي يغسل يداه كل عشر دقائق بالماء الحار والصابون, ليس هناك إنسان طبيعي يحدق بالساعة أكثر من دقيقة ليتأكد من الوقت بينما الموضوع لا يلزم أكثر من ثانية لترفع رأسك وتعرف الوقت, ليس هناك إنسان طبيعي يتأكد من جيوبه وملابسه أكثر من عشر مرات.. يفتش الخزانات, يقلب التلفاز دون أن يثبت على قناة واحدة, يتأكد حتى من عدد الصحون في حوض الغسيل, وكذلك الملابس المتسخة. كانت حياتي أشبه بمعتقل دائم التفتيش والتحقيق والتعذيب. فكرت أن أهرب, أن أركض بعيدا عن قصره الذهبي, رغم كونه في بلاد غريبة وبعيدة عن وطني. قرأ مخطط العرب في عيني وتصرفاتي, فصار يقفل الياي على إذا اضطر للخروج, ينام وعيناه مفتوحتان, كان يحبني, يعبدني, لم يقصر في تلبيه أي من طلباتي يوما, ثياب, مجوهرات, أي شيء.. كعصفور مدلل في قفص ذهبي. لكنه كان يستعبدني, يعذبني, كان يعتبرني ملكا له.
ثم جاءت المصيبة الكبرى, اكتشفت بأني حامل, في بادئ الأمر عندما علم بأمر الحمل, تغيرت معاملته نحوي وأخذت نوبات انهياره وجنونه تقل, فقلت لنفسي:" لم لا, ربما الطفل سيغير نفسيته ويغير حياته", لكنه عاد بعد فترة لأزمة الشك والضرب والإهانة, كان يخاف من شيء لا أعرف ما هو.
* * *
) وقف أمام المرآة يصفف شعره وملابسه مستعدا للخروج, كنت أراقبه وأنا جالسة على السرير, كإله تفجر العنفوان من عروقه, تخيلته عار تصرخ تفاصيل جسده بالكبرياء والغضب.. حدق بي من خلال المرآة بنظرة ملؤها الاستغراب والخوف:
- من هذا الذي يقف خلفك؟
إنذهلت وأخذت بدوري التفت يمينا ويسارا رغم يقيني أن لا أحد بالغرفة غيرنا..مدركة أن النوبة هذه المرة هي الأخطر.. وربما ستكون نهايتي, وبدأت سيمفونية الصراخ والضرب والشتم, وذلك الصوت.. والدود يأكل جمجمتي حتى كاد أن يخترقها, وانتهت بحبسي داخل خزانة الملابس.. بقيت هناك ساعات طويلة لم أحصها, عطشانة ومتألمة, مكورة على بطني الكبيرة, أحسست بسائل لزج وساخن يغطيني, لم يكن وجهي النازف, وتفجرت الآلام من بطني, لم أكن أقوى حتى على الصراخ أو التمدد أو تحريك ساقي.. الألم.. الخوف.. لأول مرة منذ عرفت بحملي خفت على طفلي, خفت كثيرا, كان بودي أن أفعل أي شيء لأحافظ عليه, أدركت ولأول مرة منذ خمسة أشهر كم يعنيني هذا الطفل, أدركت هذا وأنا على يقين بأني سأفقده بأي لحظة من الآن.. كنت أشعر مع كل قطرة دم أنزفها بروحه تخرج معها, وكأنه يصرخ بي غارزا أصابعه الصغيرة في بطني متشبثا بالحياة, متشبثا بأمه.. روح بريئة لا ذنب لها سوى أن أبوه مجنون, مجنون كشهريار يتلذذ بتعذيب وذبح أمه الآلاف المرات والمرات. (
* * *
طوال الشهور الماضية ومع كل الألم والضرب والإهانة لم أكن أبالي, لم أكن أخاف شيئا, لأني لم أملك شيئا أخاف أن أفقده, وكنت أغفر دوما وأسامح وأحيانا أحول مشاعر الغضب والكبت والذل لملحمة انتصار وهمية.. كانت تعجبني اللعبة, لم أطرك خلالها بأني أصبحت أشبهه, لكن الآن.. مع كل قبضة ولادة - طلقة - ومع كل صرخة – آه – أتشبث بالحياة.. أتشبث ببطني, أتوسل المرأة التي تحاول إسكاتي وإيقاف النزيف أن تبقي على حياة طفلي.. كنت في غرفة الطوارئ لم أعرف كيف وصلت إلى هنا.. لم أعد أميز الأشياء و الأصوات والوجوه.. لم أعد أميز المكان والزمان.. كل ما كنت أعرفه إني أريد لهذا الطفل أن يعيش, كنت أهذي ساعة وأصرخ ساعة أخرى, وشعرت بجسدي يلتهب حرارة ويشتعل ألما كبركان خامد قديم قرر أن ينفجر, وحانت ساعة الصفر, الانقباضات ازدادت وازداد جسدي احتراقا, صراخ, ألم, وذلك الصوت, إنه نفس الصوت, الدود الذي يأكل بجمجمتي قد عاد , كم تمنيت لو إنه يخترقها ويأكل رأسي وانتهي منه إلى الأبد, ضربات قلبي مجنونة كقبيلة همجية تقيم احتفال استعدادا لحرب طاحنة..
ثم.. ثم صمت كل شيء مرة واحدة, وساد سكون عميق, أتصبب عرقا, ألهث تعبا, انخفضت حرارة جسدي, كنت ألمح أشباحا يتحركون من حولي, رفعت رأسي لأرى ماذا حدث..كانا طفلين..صبيين , لم يكن واحدا, لكنهما لم يطلقا صرخة الترحيب بالحياة, كانا صامتين نماما كباقي الأشياء تلك اللحظة, كانا هامدين تماما كالمكان والزمان تلك اللحظة, كانا.. ميتين.
ومزق صمت المكان صرخة مدوية مرعبة.. لا.. لا.. هزت المكان والزمان والأشياء, فهلعت الأشباح لإسكاتي وتهدئتي لكنهم بدلا من ذلك.. أسكتوني على الأبد.
إيفــــــــــــان الــــــــدراجي
1:1:2009
9:50 مساءا
No comments:
Post a Comment