سارتر يرثي كامو

 ترجمة جودت جالي 
قبل نصف قرن، في العام 1960، لقي ألبير كامو مصرعه في حادث سير أحال السيارة التي كان فيها الى قطع محطمة من الصفيح. سارتر الفيلسوف فجع بموت صديقه السابق وخصمه العريق فكتب رثاء يليق بخصومة شريفة. بعد ثلاثة أيام أصدرت (فرانس أوبزرفاتور) عددا خاصا بالمناسبة الأليمة حمل هذا الرثاء. نقدم فيما يلي ترجمة له.


منذ ستة أشهر، والى الأمس، كنا نتساءل “ماذا سيفعل؟”. إختار مؤقتا الصمت، وهو مشوش بتناقضات توجب عليه أن يحترمها. ولكنه كان من أولئك الرجال النادرين الذين يمكن للمرء أن ينتظر قراراتهم لأنهم يختارون بتمهل، ويبقون مخلصين لخياراتهم. تكلم ذات يوم، ولم نجرؤ حتى على أن نجازف بالتنبؤ بما كان وراء كلامه. لكننا فكرنا بأنه يتغير مع تغير العالم كأي واحد منا، وهذا يكفي لأن يبقى حضوره حيا. كنا، أنا وهو، متخاصمين. الخصام ليس بذي بال، إذ أنه لم يكن بمانع لنا من أن نلتقي، كان الخصام أسلوباً آخر للعيش “معاً”، ودون أن نفقد وجهتنا في العالم الصغير الذي وِهِبْناه. ذلك لم يمنعني من التفكير به، من الإحساس بنظرته على صفحة الكتاب، على صفحة الجريدة التي يقرأها، ومن أن أقول لنفسي “ماذا يقول في نفسه الآن عما يقرأ؟ ماذا يقول في هذه اللحظة؟”. أحيانا كنت أصدر حكمي على صمته، حسب الظروف وحسب مزاجي، بأنه صمت مغالٍ في التروي، وأحيانا بأنه صمت معذب. كان صمته ميزة كل صباح، مثل الدفء، أو مثل النور، ولكنها ميزة “إنسانية”. كنا نعيش إما مع فكر كامو أو ضده، ووفق ما تكشف لنا كتبه.. ربما كان كتابه (السقوط)، خصوصاً، هو الأجمل والأقل حظاً في فهم الناس له. ولكن موقفنا هذا، “مع” أو “ضد”، كان من خلال فكره دائماً. كان فكره مغامرة فريدة من مغامرات ثقافتنا، نحاول إستشراف أطوارها وآخر مداها. كان كامو يمثل في هذا القرن، وعكس سير التأريخ، الوريث الحالي للطابور الطويل من الأخلاقيين الذين تشكل أعمالهم الشيء الأكثر أصالة في الأدب الفرنسي ربما. إنسانيته عنيدة وضيقة ونقية، صارمة وحسية، شنت معركة فيها النصر غير مضمون، ضد أحداث هذا العصر الضخمة الشنيعة، ولكن على عكس المتوقع، بإصراره على رفضه، ضد المكيافيليين، وضد عبادة الواقعية، أعاد الترسيخ، في قلب مرحلتنا، لوجود الفعل الأخلاقي. فلنقل أنه الترسيخ القابل للاهتزاز، فمهما كانت قراءتك له قليلة أو تأملك في فكره سريعاً، فإنك ولابد مصطدم بالقيم الإنسانية التي يطبق قبضته عليها بإحكام. لقد وضع الفعل السياسي تحت المساءلة، قرر إما أن يغير مجراه أو يقاتله... قرار لا مفر منه. وبإختصار إن فكره يستقر في مركز التوتر الذي يمنح الفكر حياته. حتى صمته... في هذه السنوات الأخيرة، كان له جانب إيجابي. ديكارتي العبث هذا كان يرفض مغادرة أرض الأخلاق الراسخة والسير في الدروب المرتجة للممارسة. لقد تنبأنا بهذا، وتنبأنا كذلك بالصراعات التي أسكتته، لأن الموقف الأخلاقي، إذا أُتخذ لوحده، يؤدي الى التمرد والتعرض للإدانة. كنا ننتظر، كان لزاماً عليه أن ينتظر، أن يفهم ما يجري. مهما كان الذي سيفعله أو يقرره لاحقاً، لو قدر له أن يعيش، فإنه لم يكن ليكف عن أن يكون واحدا من الطاقات الأساسية لحقلنا الثقافي، ولا أن يكف عن أن يعرض، على طريقته، تأريخ فرنسا وهذا القرن. لكننا ربما نجحنا في أن نعرف، وأن ندرك، خط سيره. لقد عمل كل شيء- عملا كاملا- وكما هو الأمر دائما، بقي كل شيء بإنتظار أن ينجز. لقد قالها ... “عملي أمامي”.. إنتهى الآن.
إن فضيحة هذا الموت الفريدة هي أن حادثا عشوائيا، اللابشري، يلغي نظام البشر. النظام البشري ليس إلا فوضى، وفوق هذا، هو ظالم، مزعزع، يُقْتل فيه الإنسان ويموت جوعاً: وفي الأقل.. ما يجعله فضيحة هو أن هذا النظام أقامه البشر، ورسخوه، ومن ثم قاتلوه. في هذا النظام توجب على كامو أن يعيش، هذا الرجل السائر قُدُماً وضع لنا السؤال، هو نفسه كان سؤالاً يبحث عن جوابه، كان يعيش “وسط حياة طويلة”، وبالنسبة لنا، بالنسبة له، بالنسبة لمن يعملون على أن يسود هذا النظام، ولمن يرفضونه، كان مهماً أن يخرج عن صمته، أن يقرر، أن يبت في الأمر.
يوجد آخرون يموتون في سن الشيخوخة، وآخرون، كالمحكومين مع وقف التنفيذ، يمكن أن يموتوا في أية لحظة، دون أن يغير معنى حياتهم من معنى الحياة شيئاً. لكن بالنسبة لنا، نحن الحائرين، الذين لا دليل لهم، يجب على أفضلنا أن يصلوا الى نهاية النفق. قلما تطلبتْ، بهذا القدر من الوضوح، خصائصُ عمل كعمل كامو، وظروفُ اللحظة التأريخية، وبهذا الإلحاح أن يكون الكاتب حياً. لكنه مات فأسميتُ الحادث الذي قتله فضيحة. لقد أظهر موته الى مركز العالم البشري عبثية مطالبنا الأكثر عمقاً. كامو، وهو في سن العشرين، ضربه الشر فجأة فأشاع في حياته الإضطراب، إكتشف العبث... هذا الإنكار الأحمق للإنسان. بنى نفسه داخل هذا العبث، تأمل في ظرفه الذي لا يطاق. لقد تخلص الآن بموته من مشكلة عويصة. ربما ظننا، لأن هذا المرض المعافى قد حطمه موت غير متوقع أتاه من جهة أخرى، أن أعماله الأولى وحدها تفصح عن حقيقة حياته.
سيكون العبث بعد الآن هو السؤال الذي لن يطرحه عليه أحد، والسؤال الذي لن يطرحه هو على أحد بعد، وهذا الصمت لم يعد صمتاً، ولم يعد لا شيء قطعاً.
أنا لا أرى رأيه. منذ أن يعلن اللابشري عن نفسه يصبح جزءا من البشري. كل حياة أُوقفتْ، حتى وإن كانت لانسان بهذا الشباب، هي في الوقت نفسه قرص يكسر وحياة تكتمل. يوجد في هذا الموت، بالنسبة لكل من أحبه، عبثية لا تطاق. لكن عليه أن يرى في هذا العمل المبتور عملا كاملا. في النطاق الذي تتضمن فيه إنسانية كامو موقفا إنسانيا تجاه الموت الذي لابد وأن يأخذها على حين غرة، في النطاق الذي ينطوي فيه بحثه المكابر والنقي عن السعادة، على حتمية أن يكون الموت “غير إنساني”، وعلى الإحتجاج عليه، نتعرف في هذا العمل وفي هذه الحياة اللذين لا يمكن فصلهما على مسعى نقي ومظفر يقوم به إنسان من أجل أن يستعيد إنتصار كل لحظة من حياته على موته المقبل.
 
نشر لأول مرة في France Observateur 7 janvier 1960 وأعيد نشره في العام 2010 في ملحق Telerama
Share:

No comments:

Popular Posts

Featured Post

خمسة تفسيرات منطقية علمية لما يدعى بالمعجزات

  اعداد: ايفان الدراجي الخوف والجهل هو أساس ارجاء تفسير الظواهر الطبيعة آنذاك لقوى مجهولة خفية قد تكون من السماء يفسرها المؤمنون...

Recent Posts