حوار مع الشاعرة فاطمة ناعوت
حاورتها إيمان عبد الرحمن
يقول جبران خليل جبران: "الفن أن نرسم روح الشجرة لا أن نرسم جزئياتها, وأن نأتي بضمير البحر لا أن نصور أمواجه".هكذا يفكر الشعراء, وفي حواري مع الشاعرة المصرية فاطمة ناعوت, حلقت بنا في سماء الشعر وغاصت بنا في بحار الدهشة. تحدثت عن تجربتها في تحويل الألم إلي طاقة نورانية. تخرجت في كلية الهندسة جامعة عين شمس، قسم العمارة, وهي ناقدة ومترجمة وعضو اتحاد الكتاب, مثلت اسم مصر في مهرجان "ربيع الشعراء" بمعهد العالم العربي في باريس مارس 2004, ومهرجان "المتنبي الدولي" بسويسرا 2007, ومهرجان "الشعر العالمي" بروتردام 2007, كما فازت مخطوطة ديوان "قارورة صمغ" بالجائزة الأولي في مسابقة "الشعر العربي" في هونج كونج لعام 2006 وترجم الديوان إلي اللغة الإنجليزية والصينية عام 2007. ومؤخرا تم اختيار فصلين من كتابها "الكتابة بالطباشير " لتدريسهما لطلبة كلية الهندسة قسم الكيمياء بجامعة القاهرة في مادة الإنسانيات,لاوالفصلان هما "العمارة والشعر" و"ما بعد الحداثة في العمارة والشعر". في هذا الحوار تحدثت الشاعرة فاطمة ناعوت عن الشعر والحب والمرأة.
• مع إنك شاعرة إلا ان لك وجهة نظر مختلفة عن الشعراء فتقولين: "شاعر رغم إنه لم يكتب قصيدة – ومَن قال إن الشعر قصيدة"؟
= الشِّعرُ ليس نظم كلمات على ورق، بل أسلوب حياة. يوجد حولنا شعراء لم يكتبوا الشعرَ، وثمة مَن ينظمون الشعرَ وهم ليسوا شعراء. ذاك أن الشعرَ سلوكٌ وطريقة نظر إلي العالم. كتبتُ مرة عن إسكافيّ أعتبره شاعرا،عم سعيد، رغم إنه أُميّ ولم يقل سطرًا شعريًّا، على إنه شاعر في طريقة تعامله مع الناس وأسلوب هندامه وابتسامته الدائمة.
• يقول الشاعر: "الآن أستطيع أن أتجوّل خفية وارتكب أعمالا خسيسة, أن انغمس كسائر الفنانين البسطاء في الخلاعة والفسق وها أنا الآن كما تري مثلك بالضبط!" ما رأيك في هذا الكلام؟
= هذا كلام الشاعر الفرنسيّ بودلير في قصيدة "فقدان الهالة". وفيها يري أن على رأس كل شاعر هالةً، تصونه من الرذائل الحماقات التي قد يأتيها سائر الناس بحريّة. ولأن الهالة تلك تمنعه من حريّة الخطأ، أراد أن ينزعها ليمارس حقّه في الخطأ والتعلّم. وأنا أتفق معه في أن هالةً تكلل رأس الشاعر، تحول بينه وبين الزلل. تلك الهالة ليست بالمفهوم الطبقيّ، فالشاعر أضعف الناس وأقلّهم حاجة لبريق الدنيا ورغدها، إنما هي هالةٌ وجودية وغطاءٌ فكريّ وأدبي؛ يعمل الشاعرُ معها على محاسبة النفس، لتصفو روحه ويقترب من النيرفانا، حسب البوذية، التي هي عندي جوهر الشعر الرائق. بوسعي أن أسمي تلك الهالةَ: الأنا العُليا، أو الضمير. على إن كلامي هذا لا يَجُبُّ حقَّ الشاعر في الوقوع في الخطأ والتعلّم منه. إنْ الشاعرُ إلا طفلٌ لا يكبر، والطفل صنوه الخطأ والتعلّم.
• ترين أن القراءة استراتيجية وتكتيك كما الحرب. حدثينا عن ذلك.
= مع بدايات تكوّن وعينا في مرحلة الصبا الأول، أظن أن القراءة لابد لها من شيء من التنظيم والبرمجة. فعلتُ ذلك في بداية حياتي. فخصصتُ عامًا للميثولوجيا اليونانية، وعامًا لفلسفتها، وعامًا لفلسفة الشرق الأقصى، وعامًا لقراءة الكتب السماوية الثلاثة، وكذا ما دوّنته العقائد الوضعية الأخرى، مثل البوذية والكنفوشيوسية، وعامًا للمصريات، وعامًا للشعر الجاهلي، وعامًا للأدب العربي القديم والحديث، وعامًا للأدب الإنجليزي، وآخر للفرنسي والأمريكي، وهلم جرا. داخل تلك الاستراتيجية يأتي التكتيك لتنظيم أولويات القراءة وأسلوب تراكمها وطرائق عمل الهوامش والأدلّة الخ. أظن أن معظمنا كقرّاء فعلنا الشيء نفسه. في منتصف أعمارنا قد نشرع في ممارسة شيء من العشوائية والفوضوية الحرّة، بمعنى أن نقرأ كل ما يقع في أيدينا وفي كل وقت. أعيش هذه المرحلة الآن، باستمتاع.
• في أكثر أشعارك وآرائك نجد عندك نزعة فلسفية هل هذا بسبب تأثرك بالفلسفة الغربية؟
= لم أتأثر كثيرا بالفلسفة الغربية بقدر تأثري بالفلسفات الشرقية. ربما أعجبت ببعض الفلسفات الغربية، خاصة مما يدعو للشك وعدم إطّراح السؤال الأبدي حول الوجود، لأن هذا السؤال هو رياضة ذهنية وروحية تحافظ على العقل والروح في حال نشطة دائمة. لكنني فُتنت بمعظم فلسفة الشرق الأقصى، لما فيها من تهذيب للروح وارتقاء بها. مثلما النيرفانا عند البوذية، التي تشبه حال "الحلول في الله" عند المتصوفة العرب. لم يبرحني الإعجابُ بتلك الشعوب الصفراء، الجنوب شرق آسيويين، الذين أظن أن السيادة ستكون لهم في الأخير، وربما قريبًا جدا. ليس فقط لأنهم منظمون ويتقنون العمل، بل لأنهم أيضا، في رأيي، الجنس الوحيد الذي فهم فكرة الحياة ولعبة التعايش. الجنس الأحمر، الأوربيون والأمريكان، رجال صناعة لكن شهوتهم للسلطة تنزع عنهم مَلَكة فهمهم فكرة الخلق والوجود. وأما الجنس الأسود، الزنوج، فمراسهم الطويل مع الطبقية أورثهم نزعة عنصرية مضادة، أيضا سلبيتهم فكرة الوجود كما رسمها خالق هذا الكون. وأما الجنس الطمييّ، اللون الأقرب لنا نحن العرب، وإن كنت أحتفظ بحقي في أن أنزع مصر من خانة العرب، فشعوب مستهلكة غير محبّة للعمل، وترتكن إلى الزهو بأوهام زائفة. جنسنا العربي مثل النملة التي على ظهر فيل. بينما الفيل يتجه للأمام، تمشي هي على ظهره للخلف، وهي تظن أنها تتقدم للأمام! فأورثها ذلك فقدان المقدرة على تمييز الاتجاه. العالم يمشي في اتجاه، ونسير نحن بدأب وإصرار في اتجاه معاكس! الجنوب شرق آسيويين، هم يأجوج ومأجوج القادم. أظن ذلك.
• هل حبك للغة العربية الفصحي جعلك تهاجمين العامية؟
= لا أهاجم العامية ,العامية ليست لغة بل لهجة. واللغاتُ واللهجاتُ لا تُهاجَم. هي جسور للتواصل، والجسور لا تُحبُّ ولا تُكره، بل تُرتادُ أو تُهجَر. لا أهاجم العامية، فهي ذاكرتنا السمعية التي تربينا عليها في البيت وفي الشارع ومع الأفلام والأغاني، لكنني أحبُّ الفصحى التي كوّنت ذاكرتنا البصرية، كما قرأناها في الكتب وفي المدرسة والجريدة. على إنني أهاجم، بشدّة، السوقية والابتذالَ في القول. كان ذلك بالفصحى أم بالدارجة.
• لك بعض الترجمات الإسلامية مثل: "القرآن بين الوعي الشفاهي والوعي الكتابي", و"النزعة الإنسانية في الفلسفة الإسلامية"، ما هي الرسالة التي كنت تودين إرسالها عن طريق هذه الترجمات إلي اللغة الإنجليزية؟
= هاتان دراستان فلسفيتان للدكتور أنور مغيث، ود. منى طلبة. وكانت ترجمتهما من العربية إلى الإنجليزية بمثابة رياضة لغوية لي. لأن المعجم العربي الإسلامي عسيرةٌ ترجمته، إذْ غالبًا ما لا نجد مرادفا لبعض كلماته في اللغات الأوربية، فنضطر إلى نحت مرادفات بديلة. رفض الفرنسيون ترجمة هاتين الدراستين، كما أخبروني وقتها، لعسر وجود مرادفات بالفرنسية، وكان قبولي ترجمتهما للإنجليزية بمثابة تحدٍّ خُضتُه من باب الرياضة اللغوية المثيرة. كل صعبٍ مثيرٌ بالضرورة.
• (كل خدعة تكسر أنثي/"لا يعول عليها"/ مادام للرجل مثلُ بطش المرأتين/ ومادام اليوم يتكيء علي عصا مشطورة /بين الأسود/ والأبيض...)، من إحدى قصائدك.
ما هي أكثر قضايا المرأة التي تشغلك؟
= أكثر ما يزعجني هو تواطؤ المرأة، مع الرجل والمجتمع، على نفسها. وكأنما لا يكفيها قامعان، فتتمّهم بالثالث! تسألين امرأة عن اسمها فتقول: أم محمدّ! تعيدين السؤال: اسمكِ أنتِ؟ فترتبك، تفكر برهة، ثم تعيد القول: أم محمد! فمنذ أنجبت "محمد"، فقدت اسمها لصالح اسم ابنها! ولو كانت عاقرًا ستُكني باسم والدها! فتجدين "أم سيد"، تسألينها عن ابنها سيد، فتقول لك، سيد هو أبي، أو أخي، لأنني أنجبت بناتٍ ولم أُرزق بصبي أحمل اسمه! السيدة الجميلة التي تساعدني في بيتي اسمها "أم كلثوم"، تأملي جمال الاسم! ومع هذا نسيته مع هجرانها إياه! أناديها باسم ابنها ترد، وأناديها باسمها فلا ترد، تظنني أكلم أحدا آخر! هذا قتلٌ للهوية. حينما نوهمها أن اسمها عورة، وصوتها عورة، وفِكرها عورة، وشعرها عورة، وكل تفصيلة في حياتها عورة. والأسوأ أنها تقتنع بكل هذا وتطبقه حرفيا دون لحظة تفكير أو تأمل!
• ولكن هذا موروث ثقافي في بعض المناطق مثل الصعيد من المحرمات ان تنادي السيدة باسمها وتعتبر حرمة؟
= هذه بدعة بطريركية وسياسية مُغرضة من أجل تكريس تشييء المرأة وتحويلها إلى أحد ممتلكات الرجل. لكن المدهش هو صدوع المرأة لهذا التصغير! الرسول الكريم كان ينادي النساء بأسمائهن، وبدّل اسمَ زوجة عمر بن الخطاب من عاصية إلى جميلة بنت ثابت.
• لك اعتراضٌ علي مسمي كلمة "عانس"؟
= في اللغة الإنجليزية يطلقون علي الفتاة التي لم تتزوج كلمة Spinster، وتعني "الغزّالة" التي تغزل النسيج لتبيعه وتعيش منه. بمعنى أنها المرأة التي لا تعتمد اقتصاديًّا على الرجل. وبهذا المنطق قد تصبح معظم نسائنا عوانس، رغم وجود أزواج لهنّ لا يعولونهن! هذا المعنى الراقي، في الإنجليزية، يُعلي من قيمة المرأة درجة، بأنها كائنٌ ليس تابعًا. بينما في لغتنا العربية تعني مفردة "العانس" القحط والبوار. نقول: الأرض العانس، يعني الجرداء التي لا خصوبة فيها! الفتاة غير المتزوجة، ننظر إليها على إن لا طالبَ طرق بابها. وهذا ليس بالضرورة الحال، لأننا نلاحظ أن معظم العوانس جميلات ورفيعات التعليم، والحال أنهن لم يجدن رجلا يناسب طموحهن فعزفن عن الزواج، وخلاص، بمنطق: ظل رجل ولا ظل حائط. فأحيانا يكون ظل الحائط أكثر أمانا! المرأةُ كائنٌ جميل بحقّه الخاص، لا تستمد جمالها من كونها بصحبه رجل أو يقلّ جمالها لأنها وحيدة دون رجل. التقاءُ الرجل والمرأة شيء فائق الجمال دون شك، لكن لو لم يحدث هذا اللقاء لن ينتقص ذلك شيئا من جمال المرأة، ولا من جمال الرجل.
• هل كونك شاعرة يحتم عليك الدفاع عن الحب والمحبين بل أيضا إيجاد الحب؟
= الحب عندي فكرته أوسع من شرنقة الحب الضيقة بين الرجل والمرأة. المقدرة على الحب هبةٌ سماوية عُليا يتقنها الشاعر الحقيقي. حبُّ ورقة الشجر الصفراء الواهنة الساقطة من عليائها الأخضر، متروكة جوار حائط لا يعبأ بها أحد. حبُّ دودة دءوب تمشي علي الأرض بحثًا عن رزقها! حبُّ العدو حتى، حينما نلمس ضعفه الوجودي وعدم مقدرته على منحنا الحبّ!
• لذلك كتبت مرة تقولين: "هل تخيلت نفسك مرة ثمرة طماطم أو عنزة أو فقاعة صابون أو صورة تحت لوح بلوري فوق سطح مكتب كاهن ... الشاعر يفعل ذلك وأكثر."؟
= كتبتُ هذا عن جو شابكوت، الشاعرة البريطانية الجميلة التي ترجمتُ لها الكثير من قصائدها من ديوانها: "العبارة". ولأنها شاعرةٌ ممتازة، تلبّست ثوب ثمرة طماطم تقبع في ركن الثلاجة تنتظر بشغف أن يختارها الرجل ليأكلها فتتدفأ وهي تتحلل في فمه وتذوب مع لُعابه! وتخيلت نفسها فقاعة صابون تتأمل العالم! وتخيّلت نفسها عنزةً وسواها من كائنات الله الجميلة المنسية تلك. الشاعرُ يخرق المنطق،ويخلق عالمًا لا يشبهه عالمٌ آخر.
• وتقولين في احدي قصائدك عن الدهشة: "القطةُ لا تندهش/حين تبصر السيدة تصفعُ وجهَ الطفلة الجميل/لما كسرت الكوب/القططُ لا تقدر أن تندهش/ لكن تقدر أن تتسلل في الليل/ لتخمش تلك اليد."
هل تعتقدين أن الاندهاش شيء مهم لدرجة قولك: "أنا اندهش إذًا أنا إنسان"؟
= نعم، أظنُّ أن الاندهاش يفرقُ الإنسانَ عن سائر مخلوقات الله. حينما يفقدُ الإنسانُ القدرة على الاندهاش يموت. والشاعر وظيفته أن يندهشَ ثم يُدهش القارئ. في رواية "الشغف التركي" لأنطونيو جالا، جملةٌ تقول: "الشعرُ والعِلمُ ينطلقان من الدهشة"، فالعالِم لا يكتشفُ ولا يخترع إلا إذا سبقت ذلك لحظةُ اندهاشٍ من ظاهرة ما. مثلما أدهش نيوتن سقوطُ التفاحة على الأرض، بدلا من طيرانها للسماء! وكذا اينشتاين عندما وجد أن قوانين نيوتن لا يمكن تطبيقها إلا علي الأرض، إذْ تخفق في التعامل مع الفضاء والمجرات، اندهش؛ ليكتشف قانون النسبية العظيم. العلم ينبع من الحَيرة والشِّعر ينبعُ من السؤال: لماذا يوجد شر في العالم؟ لماذا أحبُّ حبيبي؟ لماذا القطة لا تندهش؟ الخ، بهذه الحيرة نكتب الشعر.
• حدثينا عن ابنك عُمر، وكيفية تحويل الألم في حياتنا إلي طاقة ايجابية؟
= عمر، صغيري الجميل، مصابٌ بالتوحّد، أو الأوتيزم Autism. وهو مرض نفسي يجعل الطفل متقوقعًا مع نفسه رافضًا الانخراط في العالم. عشت سنواتٍ طويلة من عمري قانطةً حزينة من أجله. ثم رحتُ أتأمل أسلوب حياته وطريقة إنصاته للوجود فاكتشفتُ أنني أمام كنز مذهل من الجمال والرقي والترفّع عن العالم. فأمضيتُ سنواتي التالية في التعلّم منه معاني رائعة كان لابد أن أعيش عشرات الأعمار وأقرأ آلاف الكتب لأتعلمها! معانٍ مثل: الترفع، الكبرياء، العدل، عدم النفاق، عدم الابتذال، تقشّف المجاز والبخل في المبالغة، انعدام الكذب، النفور من صخب العالم، الإنصات لصوت النفس، البحث الدائم عن الجمال، وسواها من الصفات التي هي بعضُ منهج المتوحدين، تلك الكائنات المدهشة التي تعيش حولنا فلا نلتفت إلى جمالها. عمر ابني فنان يرسم لوحاتٍ مدهشة فاز بعضها بالمركز الأول على مستوى الجمهورية. والده مهندس استشاري معماري موهوب، نبيل شحاته، عرف كيف يُخرج طاقات الفن الجميلة من داخل قلب عمر ليتحول إلى أيقونة جمال وإبداع في بيتنا. أشكر الله على منحه لي هذين الولدين الجميلين: عمر الصغير، ومازن الذي حمل الشعلةَ، ليدخل هذا العام كلية الهندسة ليغدو، بإذن الله، معماريًّا واعدًا كأبيه.
العرب - لندن